تحميل رواية "الجريمة والعقاب"- "فيودور دوستويفسكي"
في رواية "فيودور دوستويفسكي" (الجريمة والعقاب) نحن أمام عمل مرهق، كتبه "فيودور دوستويفسكي" بعد سنوات المعتقل، محاصراً بالديون بسبب إدمانه على القمار، يعول أسرته وأسرة أخيه ميخائيل الذي توفي حديثاً، يتضور جوعاً، فلذا فعل ما يجيده، جلس وكتب، كانت روايته في أساسها عن السُكر وكان سيسميها (السُكارى)، حيث ستتركز على ما جره السكر على عائلة مارميلادوف، ولكن "فيودور دوستويفسكي" متأثراً بجريمة فرنسي يدعى (بيير فرانسوا لاسنيير) جعل الرواية تغير إتجاهها لتتركز على راسكولينكوف، الطالب البائس الذي ارتكب جريمة قتل بشعة، فقط لأنه أراد أن يصبح نابليون.
ما معنى هذا؟ كيف يمكن لقتل عجوز ونهب مالها أن يصنع من طالب روسي نابوليوناً؟ لقد كان نابليون الذي اندحر وفشلت حملته على روسيا قبل خمسين عاماً من كتابة الرواية رمزاً للعظمة في أوروبا كلها، رمز للروح الأوروبية التي تطمح للمجد والقوة والتأثير، وفي روسيا الفلاحة، البائسة، حيث يصور لنا "فيودور دوستويفسكي" في هذه الرواية بؤس سان بطرسبرج عاصمة الإمبراطورية الروسية حينها، ويمكننا أن نلمس إصراره على وصف نتانة المدينة، وبؤس الناس، كل ذلك الحديث عن الأسمال، والمنازل الضيقة، الكريهة الرائحة، والروبلات القليلة التي ربما تحدد مصير الإنسان وقيمته، فلذا أول كلمة ستخرج بها من الرواية هي البؤس، إنه بؤس يلف كل الشخصيات وتصرفاتهم، أو لنقل كل مسارات الرواية الثلاثة، مسار راسكولينكوف وجريمته، ومسار عائلة مارميلادوف، وأخيراً مسار أخت راسكولينكوف دونيا ومستخدمها السابق سفدريجايلوف – وهو شخصيتي المفضلة -، في روسيا هذه، في هذه البيئة، نبتت في ذهن راسكولينكوف فكرة، ماذا لو كان من حق بشر معينين أن يرتكبوا جرائم قتل أو سرقة، تمهد لهم طريقهم لينفعوا البشرية أكثر، ألا يفعل كبار الساسة ذلك؟ ألا يلقم القادة جنودهم للحروب والموت، ويقتلون آلاف البشر ليعلوا في المجد ويحققوا أهدافهم؟ هذه الفكرة التي تكونت ووضعها راسكولنيكوف في مقال، جعلته يقرر أن يمضي هو إلى المجد، أن يخرج من الجحر الذي هو فيه، وفي سبيل ذلك يحتاج إلى أن يقضي على بقة، كائن لا قيمة له، عجوز تمتلك مالاً جمعته من الإقراض والرهون، وبعد أن يحصل على مالها، يمكن له أن يشق طريقه، وأن يصبح نافعاً لنفسه ولأكبر عدد من الناس، الأمر الآخر الذي دفع راسكولينكوف إلى جريمته هو السؤال الأبدي، الذي ربما مر بنا نحن في يوم من الأيام، إنه سؤال "هل أجرؤ على فعل هذا الشيء؟"، إنها رغبة الإنسان في اكتشاف حدوده وقدراته، إنها ما يجعل الإنسان يصعد جبلاً، أو يقفز من طائرة، أو يغازل أنثى جميلة، أو يضرب عجوزاً على رأسها بساطور.
على أي حال، لا تسير الأمور كما خطط لها راسكولينكوف، فبدل أن يقتل العجوز فقط، يقتل أختها إليزابث التي دخلت عليه وهو منهمك في جريمته، كما أن راسكولينكوف يكتشف أنه وإن جرؤ على القتل، إلا أنه لا يجرؤ على تحمل تبعات جريمته، فلذا يمرض طويلاً، ويكاد يعترف مرات عديدة، إن رحلة راسكولينكوف مع ذاته، مع جريمته طويلة، إنها موضوعة الرواية وقيمتها الفكرية، في ذات الوقت نتعرف على أمه وأخته اللتان تأتيان إلى بطرسبرج بقصة وخطيب، أما القصة فهي قصة سفدريجايلوف المستخدم السابق الذي حاول التقرب من دونيا، والهروب معها، وكيف أن زوجته فضحت دونيا بين الناس، قبل أن تكتشف براءتها وشرفها، فتعيد لها اعتبارها، يرفض راسكولينكوف الخطيب البخيل والذي يظن أنه يتفضل على العائلة بزواجه منهم، كما تنكشف دناءاته وحقاراته فيما بعد.
يتعرف راسكولينكوف في أحد البارات على رجل سكير يدعى مارميلادوف، يحدثه مارميلادوف عن زوجته التي تعاني من مرض السل الذي يجعلها تبصق الدم بين نوبات السعال، وتعاني من سكر زوجها والفقر الشرس الذي يجعلها جائعة هي وأبنائها، إلى حد أنها تدفع سونيا ابنة مارميلادوف من زواج سابق إلى الدعارة لكي تعيل العائلة المنكوبة.
تختلط هذه المسارات كبحر خضم، وتلج الرواية شخصيات كرازوميخين صديق راسكولينكوف، الذي يعشق شقيقة صديقه دونيا حالما يراها، وكذلك المحقق بروفير بتروفيتش الذي يحاصر راسكولينكوف بأسئلته وشكوكه، هذه رواية لا يمكن تلخيصها، رواية إما أن تقرأها كاملة، وبنفسٍ ملحمي، لا تصدك الصفحات ولا الحوارات الفلسفية، بحيث تشعر بعد الفراغ منها بأنك قرأت شيئاً ما، رائع بحق، ولكنه يفتقد شيئاً، لا تدري كنهه، أو لا تقرأها أبداً، نصف قراءة هي جريمة بحق هذه الرواية.
أعود إلى سفيدريجايلوف، لا أدري ما الذي جذبني لهذه الشخصية؟ إنه شخص غريب، تشعر بأنه عاشق، نذل، كريم، رائع، لا تدري كيف تصفه، والنهاية التي منحها له دستويفسكي نهاية عظيمة، ربما هي ما أضفت على شخصيته شكلها النهائي، إن مشهد انفراد سفيدريجايلوف بدونيا، وإطلاقها الرصاص عليه من المشاهد الخالدة في الرواية، إنها تبين معدن هذا الرجل، صلابته، وإن تركه لها وابتعاده عنها، إن هذا المشهد عندما يصبح الرجل على بعد شعرة من المرأة ثم يتركها لأنه يحبها ولا يريد إيذائها، سيستعيده "فيودور دوستويفسكي" مجدداً في الأخوة كرامازوف بين ديمتري وكاترينا إيفانوفنا.
لا أدري هل يمكننا أن نقول أن الرواية انتهت نهاية سعيدة؟ أظن أنه يمكننا أن نقول ذلك، بعد كل البؤس الذي حل في الرواية بأغلب شخوصها، إلا أن الشخصيات الرئيسية أو لنقل راسكولينكوف وسونيا، ورازوميخين ودونيا انتهت إلى أن تبقى معاً، ولم يطوح بها "فيودور دوستويفسكي" أو يقضي عليها، هناك أمل برغم كل شيء.
لتحميل وقراءة الجزء الأول من رواية "الجريمة والعقاب"
لتحميل وقراءة الجزء الثاني من رواية "الجريمة والعقاب"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق